فصل: تفسير الآيات (15- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (15- 16):

{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)}.
التفسير:
يجمع المفسرون على أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية الثانية من سورة النور.. وهى قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} وأن حدّ الزنا كان في أول الإسلام- كما يقولون- هو الإمساك للمرأة الزّانية وحبسها في البيت، على حين أن الرجل يعنّف ويؤنّب باللسان، أو ينال بالأيدى أو النعال، حسب تقدير ولىّ الأمر! ونحن- على رأينا بألا نسخ في القرآن- نرى أن هاتين الآيتين محكمتين وأنهما تنشئان أحكاما لمن يأتون الفاحشة- من الرجال والنساء- غير ما تضمنته آية النور من حكم الزانية والزاني.
فالآية الأولى هنا: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}.
إن هذه الآية خاصة بالنساء، إذ كان النصّ فيها صريحا بهن، وذلك بالإشارة إليهن باسم الاشارة المؤنث: {اللاتي} وبإضافتهن إلى الرجال: {مِنْ نِسائِكُمْ} وبالحديث عنهن بضمير النسوة.. {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ} {فأمسكوهن} {يتوفاهنّ} {لهنّ} وهذا ما يقطع بأن الآية هنا خاصة بالنساء! أما الآية الثانية فهى خاصة بالرجال إذ كانت الإشارة فيها إلى المذكر، {اللذان} والضمير في {يأتيانها} وكذلك الضمير في {منكم}.
هذا كله نصّ صريح في أن المشار إليهما هما من جنس الرجال، الذين يوجّه إليهم الخطاب في الآية.
واضح إذن أن الآية الأولى في شأن النساء، كما أن الآية الثانية في شأن الرجال.. وهذا ما يكاد يجمع عليه المفسرون. إذ لاخلاف بينهم في هذا، ولكنهم فرقوا بين العقوبة التي تؤخذ بها المرأة الزانية، والعقوبة التي تجرى على الرجل إذا زنا! الأمر الذي لم يقع في آية النور التي جاءت فسوّت بين الرجل والمرأة في هذه الجريمة، وفى العقوبة المفروضة على كل منهما.
وإذ كان كذلك فإن لنا أن نتوقف عند هذه المفارقة بين الناسخ والمنسوخ، في أمر يوزن بميزانين بالنسبة للرجل والمرأة، ثم يعاد هذا الأمر فيوزن بميزان واحد، تتعادل فيه كفة الرجل والمرأة على السواء!.. ففى آية النور جاء حكم الزاني والزانية مائة جلدة لكل منهما، أما في هاتين الآيتين: فقد كان للنساء حكم، وللرجال حكم، في العقوبة المفروضة على الزاني من الرجال، أو الزانية من النساء.
فإذا كان هناك وجه يمكن أن تحمل عليه الآيتان، بحيث ترتفع هذه المفارقة التي تقوم بينهما وبين آية النور، وبحيث تكون بينهما تلك العلاقة التي بين المنسوخ والناسخ له، إذا كان هناك وجه لرفع هذه المفارقة، أفلا نلتمسه، ونذهب إليه، ونأخذ به؟ فكيف وهناك أكثر من وجه؟

فأولا: الزنا في صورته العامة الشائعة، التي يتعامل أهل العربية بها في لسان اللغة، وفى لسان الشريعة، هو تلك الجريمة التي تقع بين الرجل والمرأة على غير فراش الزوجية.
وقد جاءت آية النور صريحة في حكم هذه الجريمة، فقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [2: النور] وثانيا: هناك جريمتان هما من قبيل الزنا ولكنهما ليستا بالزنا المعروف في لسان اللغة، أو لسان الشرع.. ولهذا فقد كان لكل منهما اسم خاص به، في اللغة وفى الشرع أيضا، وهما: السّحاق، والّلواط.
والسحاق عملية جنسية، بين المرأة والمرأة.
واللواط عملية جنسية، بين الرجل والرجل.
ووالزنا عملية جنسية، بين الرجل والمرأة.
وفى هذه الصور الثلاث تكتمل العملية الجنسية في أصلها، وفيما يتفرع عنها.
وثالثا: إذا قيل إن الآيتين السابقتين متعلقان بأحكام الزنا الأصلى الذي يكون بين المرأة والرجل، وأن ذلك كان في بدء الإسلام، ثم نسختا بآية النور- إذا قيل ذلك، كان معناه أن كل ما ورد في القرآن الكريم متعلقا بالزنا جاء خاصّا بهذا الزنا الصريح، دون أن يكون فيه شيء عن الجريمتين الأخريين: اللواط، والسحاق! وهذا أمر ما كان للقرآن أن يتركه، بحجة أنه عمل شاذ، خارج على مألوف الفطرة.. لأن الشريعة الإسلامية ما جاءت إلا لعلاج الشذوذ الإنسانى عن الفطرة السليمة، وإلا لتحيد به عن شروده وانحرافه عنها.. وهذا يعنى أنه لابد- لكمال التشريع- من أن يشرّع القرآن لهاتين الجريمتين، ويفرض عقوبة مناسبة لهما.
ورابعا: أن الآيتين السابقتين صريحتان، في أن الأولى منهما في شأن النساء، وأن الآية الثانية في شأن الرجال، خاصة.
وليس بين النساء والنساء إلا السحاق، كما أنه ليس بين الرجال إلّا اللواط.
وعلى هذا، فإننا- إذ خالفنا ما كاد ينعقد إجماع الفقهاء والمفسرين- نرى أن قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ...} الآية هو لبيان الحكم في جريمة السحاق التي تكون بين المرأة والمرأة.. وأن هذا الحكم هو ما بينه اللّه سبحانه وتعالى في قوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أي يؤذين بالحبس في البيوت، بعد أن تثبت عليهن الجريمة بشهادة أربعة من الرجال، دون النساء، كما يتبيّن ذلك في قوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} أي أربعة منكم أيها الرجال.
وأما قوله تعالى: {وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما الآية} فهو خاص بجريمة اللواط، بين الرجل والرجل.. والحكم هنا هو أخذهما بالأذى، الجسدى، أو النفسي، وذلك بعد أن يشهد عليهما أربع شهود، على نحو ما في السحاق.
وإذ أخذنا بهذا الرأى، فإن علينا أن نكشف عن بعض وجوه خافية فيه.
فأولا: هذه التفرقة في العقوبة بين السحاق واللواط.
لما ذا لم يسوّ بينهما؟ ولما ذا يكون للنساء حكم، وللرجال حكم.. مع أنهما أخذوا جميعا بحكم واحد في الزنا؟
والجواب على هذا.. هو أن كلّا من السحاق واللواط وإن كانا من باب الزنا، إلا أن لكل منهما موردا غير مورد صاحبه، فكان من الحكمة- وقد اختلف المورد- أن يختلف الحكم.
فالمرأة وهى مغرس الرجل، ومنبت النسل، قد تستطيب هذا المنكر فيحملها ذلك على أن تزهد في الرجل، وعلى ألا تسكن إليه في بيت، وأن تتحمل أثقال الحمل، والولادة، وتبعة الرضاع والتربية، وهذا من شأنه- إذا شاع وكثر- أن يحوّل النساء إلى رجال، وأن ينقطع النسل، وألا يعمر بيت، أو تقوم أسرة.
ولهذا كانت عقوبة المرأة على هذه الجريمة أن تحبس في البيت، الذي كان من شأنه أن يعمر بها، وأن تقيم فيه دعائم أسرة، لو أنها اتصلت بالرجل اتصالا شرعيا بالزواج.
وقد يعترضنا هنا سؤال.. وهو: هل حبس المرأة في البيت يمنع وقوع هذه الجريمة منها؟ والجواب: نعم، فإن فرصتها في البيت، مع الوجوه التي تعرفها لا تتيح لها ما يتيحه الانطلاق إلى هنا وإلى هناك خارج البيت، حيث تلقى من النساء من لا ترى حرجا، ولا استحياء من أن ترتكب هذا المنكر معها، الأمر الذي لا تجده في البيت الذي تعيش فيه مع أهلها، من أخوات، أو زوجات زوج، أو أب، أو أخ.. فالحبس في البيت لمرتكبة هذا المنكر، هو أنجح علاج يصرفها عن هذه العادة، بقطع وسائلها إليها.
أما الرجل والرجل، فإن عقوبتهما من جنس فعلتهما، لما فيها من تحقير لهما وإذلال لرجولتهما، ومروءتهما، وذلك بأخذهما بالأذى المادي، أو النفسي.
وثانيا: كان حديث القرآن عن النساء بصيغة الجمع.
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} وكان حديثه عن الرجال بصيغة المثنى.. {وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ} فما وراء هذه التفرقة؟ ولم كان الجمع في النساء، وكانت التثنية في الرجال؟ ولم لم يكن الأمر على عكس هذا؟
والجواب: أن المرأة والمرأة في جريمة السحاق في وضع متساو، لا فرق فيه بين امرأة وامرأة، حين تلتقى المرأتان على هذا المنكر، فساغ لهذا أن يكون الحديث عن هذه الجريمة حديثا شاملا لجميع مرتكبات هذا المنكر، بلا تفرقة بينهن.. فالمرأة على حال واحدة مع أية امرأة تلتقى بها في هذه الفعلة.
وليس الأمر على هذا الوجه في اللواط بين الرجل والرجل.. فرجل في وضع وآخر في وضع.. أحد الرجلين فاعل، والآخر مفعول به.. وفرق بين الفاعل والمفعول.. ولكن بالرجلين تتم هذه الفعلة المنكرة، ومن ثمّ كان الإثم، وكان العقاب على هذا الإثم قسما مشتركا بينهما، كما كان استحضار رجلين لازما كى يمكن تصوّر هذه الجريمة، إذ لا يمكن تصور هذه الجريمة إلا مع وجود رجلين.. ذكر وذكر.
وثالثا: في قوله تعالى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}.
يسأل عن السبيل الذي جعله اللّه أو يجعله لأولئك المذنبات اللاتي قضى عليهن بالحبس في البيوت.. ما هي تلك السبيل؟ وهل جعل اللّه لهن فيها مخرجا؟
الذين قالوا بالنسخ في الآيتين، وهم جمهور الفقهاء والمفسرين- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- يقولون إن السبيل التي جعلها اللّه لهن هي الخروج بهن من هذا الحكم الذي قضى عليهن بالإمساك في البيوت، وذلك بنسخ هذا الحكم وإحالته إلى الحكم الذي تضمنته آية النور وهوقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ...} الآية.
ويروون لهذا حديثا عن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو أنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- حين تلقى آية النور من ربه، وزايله ما غشيه من الوحى، قال لمن حضره من أصحابه: خذوا عنى، خذوا عنى.. قد جعل اللّه لهنّ سبيلا.. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.
والسؤال هنا: هل من السبيل التي تنتظر منها هؤلاء المكروبات بابا من أبواب الطمع في رحمة اللّه أن ينقلن من الحبس إلى الرجم أو الجلد؟
إن في قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} يدا علوية رحيمة تمتدّ إليها أيدى أولئك البائسات الشقيّات، في أمل يدفئ الصدور، ويثلج العيون! فكيف يخلفهن هذا الوعد الكريم من ربّ كريم؟ وحاش للّه أن يخلف وعده.
ولا نقول في الحديث المروي أكثر من هذا.
وأما الذين لا يقولون بالنسخ لهاتين الآيتين- ونحن منهم- فيقولون: إن السبيل التي جعلها اللّه لهؤلاء المذنبات، هي أن يفتح اللّه لهن بابا للخروج من هذا السجن، على يد من يتزوج بهن.. فالزواج هنا ينتقل بهن إلى بيت الزوجية الذي يعشن فيه عيشة غيرهن من المتزوجات، حيث يسقط عنهنّ هذا الحكم الذي وقع عليهن.
وهذه الرحمة التي يمسح اللّه بها دموع هؤلاء المذنبات من عباده، ويردّ بها إليهن اعتبارهن، بعد الذي نالهن من عذاب جسدى، ونفسى- هذه الرحمة هي في مقابل تلك الرحمة التي أفاضها اللّه على قرنائهنّ من الرجال، الذين اقترفوا جريمة اللواط.. فقد جاء بعد قوله تعالى: {وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما} جاء قوله سبحانه: {فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً} فهذا الأمر بالإعراض عن أهل اللواط بعد أن يتوبا ويصلحا، وهذه السبيل التي جعلها اللّه لمرتكبات السحاق إن صلح حالهن ورغب الأزواج فيهن- هذا وتلك، هما رحمة من رحمة اللّه، ولطف من ألطافه، يصحب المقدور، ويخفف البلاء، ويهوّنه.. {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} فسبحانه وسع كل شيء رحمة وعلما، يجرح ويأسو، ويحكم ويعفو.. آمنت به لا إله غيره، ولا ربّ سواه.
ومما يؤيد ما ذهبنا إليه في فهم هاتين الآيتين، وحملهما على هذا الوجه الذي فهمناهما عليه، ما جاء بعدهما من قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} فذكر التوبة هنا، وأثرها في محو السيئات، هو توكيد لقوله تعالى: {فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما} أي إن اللذين يأتيان الفاحشة اللواط من الرجال لهما مدخل إلى التوبة التي بها يتطهران من هذا الإثم، أما الزّنا فلا يطهر منه مقترفه إلا بإقامة الحدّ عليه، كما فعل ماعز حين ارتكب هذا المنكر، فجاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وقال: طهّرنى يا رسول اللّه.. وما زال يقول طهرنى يا رسول اللّه، والرسول الكريم يراجعه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات. فأمر الرسول- صلّى اللّه عليه وسلّم- بإقامة الحدّ عليه، ورجمه، وكذلك كان الأمر مع المرأة الغامدية.

.تفسير الآيات (17- 18):

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)}.
التفسير:
رأينا في الآيتين السابقتين كيف عادت رحمة اللّه فمسحت دمعة البائسين من أهل المنكرات، من الرجال والنساء، بعد أن تابوا وأصلحوا.
وهنا في هاتين الآيتين بيان للتوبة التي يقبلها اللّه من عباده المذنبين، والتي يلقى بها ذنوبهم بالصفح والمغفرة.
فيقول سبحانه. {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}.
والمراد بالجهالة هنا ما يركب الإنسان من حمق، وطيش، ونزق.. وهو في مواجهة المنكر، وليس المراد بالجهالة عدم العلم بالمنكر الذي يرتكبه.. فهذا معفوّ عنه، ومحسوب من باب الخطأ.
والمراد بالتوبة من قريب، أن يرجع المذنب إلى نفسه باللائمة والندم، وأن ينكر عليها هذا المنكر الذي وقع فيه، وألا يستمرئه، فإذا وقف الإنسان من نفسه هذا الموقف كانت له إلى اللّه رجعة من قريب.. فإن مثل هذا الشعور يزعج الإنسان عن هذا المورد الوبيل الذي يرده، ويلوى زمامه عنه.. إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد.. وهذا ما حمده اللّه سبحانه وتعالى لأصحاب تلك النفوس التي يقلقها الإثم، ويزعجها المنكر إذا هي ألمّت بمنكر، أو واقعت ذنبا، فكان من حمده سبحانه لتلك النفس وتكريمه لها أن أقسم بها، فقال سبحانه: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [1- 2: القيامة].
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [135: آل عمران] فالعلم هنا مقابل للجهالة في قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ}، أي أنهم لم يصرّوا على ما فعلوا من منكر وهم يعلمون أن هذا المنكر يجنى عليهم ويحبط أعمالهم، وإنما هم مغطّى على بصرهم، لما لبسهم حال غشيانهم المنكر من خفّة وطيش، فلما استبان لهم وجه المنكر، وعرفوا عاقبة أمرهم معه، أنكروه، وبرئوا إلى اللّه منه.
وقد مدح اللّه هؤلاء، الذين ينكرون المنكر حتى بعد أن يواقعوه.
فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها}.
وفى قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} ردّ وردع لأولئك الذين يستخفّون بمحارم اللّه، فيهجمون عليها في غير تحرج ولا تأثم، ويبيتون معها، ويصبحون عليها، دون أن يكون لهم مع أنفسهم حساب أو مراجعة.. وهكذا يقطعون العمر، في صحبة الفواحش، ظاهرها وباطنها، حتى إذا بلغوا آخر الشوط من الحياة، وأطلّ عليهم الموت، فزعوا وكربوا، وألقوا بهذا الزاد الخبيث من أيديهم، وقالوا: تبنا إلى اللّه، وندمنا على ما فعلنا من ركوب هذه المنكرات! إنها توبة لم تجئ من قلب مطمئن، وعقل مدرك، يحاسب ويراجع، ويأخذ ويدع، ولكنها توبة اليائس الذي لا يجد أمامه طريقا غير هذا الطريق.. إنه لم يثب وهو في خيرة من أمره.. فيمسك المنكر أو يدعه، ويقيم على المعصية أو يهجرها.. وإنما هو إذ يتوب في ساعة الموت، أشبه بالمكره على تلك التوبة، إذ لا وجه أمامه للنجاة غير هذا الوجه.. وقد فعلها فرعون من قبل حين أدركه الغرق، فردّه اللّه سبحانه، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا: {حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [90- 91: يونس].
إن إيمان فرعون هنا لم يكن عن اختيار بين الإيمان والكفر.. بل كان لابد له من أن يؤمن حتى ينجو من الغرق، إن الكفر باللّه هو الذي أورده هذا المورد، وإن الإيمان باللّه الذي كفر به من قبل هو الذي يردّه عن هذا المورد ويدفعه عنه.. هكذا فكر وقدّر!! وشبيه بهؤلاء الذين لا يرجعون إلى اللّه، ولا يذكرونه إلا عند حشرجة الموت، أولئك الّذين يغرقون أنفسهم في الآثام مادامت تواتيهم الظروف، وتسعفهم الأحوال، حتى إذا سدّت في وجوههم منافذ الطريق إلى مقارفة الإثم، بسبب أو بأكثر من سبب، تعفّفوا وتابوا.. وتلك توبة العاجز المقهور، ورجعة المهزوم المغلوب على أمره. لا يخالطها شيء من الندم، ولا يقوم عليها سلطان من إرادة ومغالبة.. إنها توبة غير مقبولة.